meta content='أنا المصرى' name='title'/> الأستاذ الدكتور "جمال برهامي" شاهد عيان على مذبحة غزة | أنا المسلم

اخر المواضيع

Wednesday, May 9, 2012

الأستاذ الدكتور "جمال برهامي" شاهد عيان على مذبحة غزة

الرابط للموضوع الأصلى :   http://medicalclub.bb-fr.com/t20475-topic

الأستاذ الدكتور "جمال برهامي"  شاهد عيان على مذبحة غزة

حاوره وقدم له د/ناجح إبراهيم

- ضيفنا اليوم الأستاذ الدكتور "جمال برهامي" هو الوحيد في كل جامعات مصر الذي يشغل هذا المنصب الرفيع ويركب عربة سيات متواضعة لا يكاد يبلغ ثمنها خمسة آلف جنيه.. ذلك إن قبل أحد أن يشتريها.

- وأول مرة قابلته فيها كان عندما جاء في الصباح الباكر ليجري عملية جراحية دقيقة في فك ابنة أحد الإخوة وكانت رضيعة وولدت بورم حميد في الفك يعوقها عن الرضاعة.. وقد نجح في استئصاله في ربع ساعة فقط.

- فقلت له: ما هذا يا دكتور جمال؟.. أنت أستاذ جراحة من أدق الجراحات في مصر منذ خمسة عشر عاماً وتركب عربة سيات.

- فقال لي: أنا الوحيد في أساتذة الجامعة كلها الذي يركب هذه السيارة حتى أن كل عمال الجراج في الكلية يعرفونني من سيارتي هذه.. 

- فقلت له : هذه لا تناسبك أبداً.. ويمكن أن تتعطل بك في أي مكان.. وتسبب لك مشكلة!

- فقال لي:تصور أنها لم تتعطل طوال حياتها معي إلا مرة واحدة.. وفي هذه المرة رزقني الله بضابط مرور يعرفني سحب السيارة إلي مكان أصلاحها.

- ولعل البعض يعجب من هذه الشخصية الزاهدة الفريدة التي لا تجدها إلا في ثلاثة أماكن فقط في المسجد أو في غرفة العمليات أو البيت والذي يعتبر من أكثر الجراحين الإسكندرانية الذي يخدم الفقراء والمساكين بلا حدود ودون اعتبار لأي شيء أخر.

- وما أكثر العمليات الجراحية التي أجراها للفقراء مجاناً أو بأجر زهيد.

- وهو من الجراحين الكبار القلائل اليوم الذي لا يشترط أجراًُ محدداً ويقبل أي أجر مهما كان ضئيلاً.

- وهذا هو الحوار الوحيد الذي أجريته حتى الآن مع ضيف في المسجد.. فقد قال لي حينما هاتفته: يا دكتور ناجح أنا مقصر في مراجعة وردي من القرآن وليس عندي أي وقت ولا أحب أن أتحدث عن نفسي ولم أصنع شيئاً يستحق الحديث أو الظهور في وسائل الإعلام التي أكررها.

- ولكنني أقنعته أن هذا الحوار هو دعوة إلي الله في المقام الأول وتعريف للناس بمأساة ومذبحة غزة.. فوافق على مضض.. وقال: على أن يستغرق الحوار نصف ساعة فقط فقلت:إذا الجزء الأول منه..

- وذهبت إليه فعلاً فوجدته جالساً في مسجد الفاروق عمر يراجع ورده القرآني مع طبيب آخر.. فاستقبلنا بترحاب ومكثنا نتحدث قرابة الساعة أو أكثر وقلوبنا تهفو جميعاً نحو التضحية والبذل والفداء والنصرة ولو كنت تركته على سجيته لاستمر يتحدث دون انقطاع ولكنني احترمت ورده القرآني وعهدي معه فاكتفيت برحلته إلي غزة فقط.

- وعلى غير عادتي فقد بدأت معه الحوار من أخر رحلة طبية وإنسانية ودعوية له.. وهي رحلته مع قافلة نقابة الأطباء بمصر إلي غزة الحبيبة.. وكان الحديث شيقاً وممتعاً ومحزناً مؤلماً في الوقت نفسه.

- ود/ جمال برهامي رغم عدم ممارسته للدعوة الإسلامية في صورها التقليدية مثل شقيقه الأصغر د/ياسر برهامي إلا أنني أرى أنه أكثر من أي داعية آخر تبليغاً لرسائل دعوية عظيمة من الزهد الورع والتفاني وخدمة الآخرين والنصرة.. ومئات الرسائل الدعوية ألآخري التي لا أستطيع حصرها.

- ولعل في مثل هذا الرجل الصالح درس بكل الذين يتوقفون عن الدعوة إلي الله لمجرد منعهم من وسيلة أو وسيلتين من وسائلها العامة.. فهذه الدعوة الصامتة قد تكون أبلغ بكثير من كثير من الخطب الصارخة والكلمات الزاعقة.. فإلي الجزء الأول من حوارنا مع د/ جمال برهامي...

- في البداية نود أن تعطينا فكرة مبسطة عن بطاقتك العائلية؟

- الاسم: جمال الدين حسين برهامي.

- العنوان: مواليد كفر الدوار في 12/1950م.

- المهنة: أستاذ جراحة تجميل الوجه والفكين بكلية الطب جامعة الإسكندرية.

- الحالة الاجتماعية: متزوج من عام 1980م.

- عندي أربعة أولاد.. اثنين ذكور واثنين بنات وهم على الترتيب:

- أحمد وهو طالب ببكالوريوس طب الأزهر بأسيوط.

- ونهى (أم حمزة) وهي متزوجة من دكتور صيدلي.

- وفاطمة في الثالثة ثانوي "أدبي".

- وعبد الرحمن أولى ثانوي.

- هل يمكنك أن تعطينا نبذة مختصرة عن مشوارك العلمي والطبي منذ البداية وحتى الآن؟

- لقد حصلت على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة الإسكندرية 1974م بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف.

- ثم حصلت على ماجستير الجراحة 1978م في الجراحة العامة والتجميل وكان موضوع الرسالة عن إصابات الأنسجة الرخوة في الوجه.

- ثم حصلت على بكالوريوس طب الأسنان 1983م حتى أستطيع الإلمام إلماماً جيداً بمنطقة الوجه والفكين التي تخصصت في جراحة التجميل فيها على وجه الخصوص.

- ثم حصلت على الدكتوراه في جراحة الوجه والفكين والتجميل 1984م وكان موضوع الرسالة عن "استخدام العضلة الصدرية مع جزيرة من الجلد فوقها لإصلاح ما نتج عن استئصال الأورام السرطانية من منطقة الوجه والفكين والرأس والعنق".

- رقيت إلي أستاذ مساعد.. ثم أستاذً لجراحة التجميل 1995م.

- كنت أول من أدخل فرع الجراحة الميكروسكوبية في قسم جراحة التجميل بطب الإسكندرية.. وقد تدرب في هذا القسم أجيال على الجراحة الميكروسكوبية وخاصة في إصلاح العيوب الناتجة عن استئصال الأورام الخبيثة التي لا يمكن إصلاحها إلا بالجراحة الميكروسكوبية.

- لماذا اخترت جراحة التجميل بالذات كتخصص دقيق لك؟

- جراحة التجميل ممتازة جداً.. وهي هامة جداً في حياة الناس.. ولا يعرف ذلك سوى المريض الذي يصاب بحروق شديدة تحتاج إلي رقع لإصلاح التشوهات وإعادة الوظائف التي فقدت أو الحركات التي توقفت.. أو الإنسان الذي يولد ابنه بشفة أرنبيه أو عدم التئام شقي الحلق.. فتسبب له الشفة ألأرنبيه مشاكل وظيفية ونفسية لا حصر لها.. أو يؤدي عدم التئام شقي الحلق إلي عدم القدرة على بلع الماء والطعام لأنهما يذهبان إلي تجويف الأنف.

- فضلاً عن الأهمية القصوى لهذه الجراحة بالذات أثناء الحروب.. وكذلك بعد إزالة الأورام الخبيثة.. وأنا احمد الله الذي وفقني لاختيار هذا التخصص المفيد للناس جميعاً.

- على غير المعتاد مع كل ضيوفي..سأبدأ حواري معك اليوم من آخر رحلة قمت بها وهي رحلتك إلي غزة..وذلك لأهميتها من ناحية.. وتشوق القارئ لمعرفة تفاصيل هذه الرحلة من ناحية أخري..فهل يمكنك أن تصحبنا معك في هذه الرحلة وتحكي لنا في البداية كيف ذهبت إلي غزة؟

- لم تكن هذه الرحلة هي أولي رحلاتي لعلاج جرحى الحرب من المسلمين.. وكنت أعلم أن نقابة الأطباء ممثله في لجنة الإغاثة بها تبذل جهوداً حثيثة للتخفيف عن إخواتنا في غزة.. خاصة في المجالات الطبية والإنسانية.

- ولذا فقد كتبت اسمي في النقابة لكي أكون مع أي قافلة طبية تذهب إلي هناك ولعلمي أن تخصص جراحة تجميل الوجه والفكين خاصة والتجميل عامة له أهمية قصوى في حالات الحروب.. كما أن المتخصصين فيه هم قلة ويعدون على أصابع اليدين في مصر.

- وفي أحد الأيام كنت جالساً في المسجد بين المغرب والعشاء فأرسل لي د/ محمد الفحام أستاذ التخدير رسولاً يخبرني أن القافلة الطبية ستتحرك في الساعة السادسة صباح الغد من مبني نقابة الأطباء في القاهرة.. وكان الوقت ضيقاً جداً أمامي للاستعداد لهذه الرحلة.. ولكنني أسرعت بالسفر مباشرة وصليت الفجر بأحدي المساجد بجوار النقابة ثم تحرك الأتوبيس بنا.. وكان فيه مجموعة متنوعة من كافة التخصصات.. حتى أن أحد أساتذة النساء والولادة صمم على الذهاب معنا رغبة في الخير رغم أن حالات الحروب لا تحتاج هذا التخصص.. ولكنه قال: سأساعدكم في أي إصابات تكون في مناطق الرحم وما حوله.. وفعلا ذهب معنا.

- وذهبنا إلي رفح وسمح لنا بدخول المعبر بيسر وسهولة ثم ذهبنا إلي "خان يونس" بغزة مباشرة.

- وماذا فعلتم في مستشفيات "خان يونس"؟

- ذهبنا إلي مستشفى "ناصر بخان يونس"أولاً.. ثم تم توزيعنا على اثنين من المستشفيات.. حيث ذهب 12 طبيباً إلي المستشفى الأوربي وكنت أنا من بينهم.. وبقي الأطباء الآخرون في مستشفى "ناصر".

- وماذا رأيت في المستشفى الأوربي؟

- قبل أن أذهب إلي المستشفى الأوربي بعدة أيام قام الطيران الإسرائيلي بقصف مركز حول المستشفى مما أدى إلي هدم جزء من سور المستشفى.. وقد شاهدت بنفسي بقايا الصاروخ الإسرائيلي حيث سقط على بعد عشرة أمتار فقط من مخزن الوقود الخاص بالمستشفى.. ولو سقط على هذا المخزن لدمر المستشفى بأكملها وأحرق المرضى جميعا..ولكن الله سلم

- وقد كانت الحالات كثيرة في المستشفى الأوربي في تخصصي.. ولكنني انتهيت منها سريعاً.. إذا أنني كنت أواصل الليل بالنهار في غرفة العمليات حتى أنتهى من المرضى في هذه المستشفى وأذهب إلي مستشفيات أخرى. 

- وماذا فعلت بعد أن قاربت على الانتهاء من إجراء العمليات الجراحية لمرضاك في المستشفى الأوربي؟

- بدأت بعدها أذهب بين الحين والآخر إلي مستشفى "ناصر" لأجري عمليات جراحية للحالات التي تحتاج إلي تخصص التجميل.. ثم أعود للمبيت في المستشفى الأوربي.

- ولكن كل أملي كان أن أذهب إلي مستشفى "الشفاء" وهي أكبر مستشفى في غزة.. وفيها عدد من الإصابات الجسمية المعقدة.. والحمد لله تحققت أمنيتي في الذهاب إلي هذا المستشفى العريق.

- كيف تحققت هذه الأمنية في ظل القصف المتواصل لقطاع غزة وقريباً من مستشفى الشفاء؟

- لقد ذهبنا إلي مستشفى الشفاء بعد وقف إطلاق النار.. حيث لم نستطيع الذهاب إليه أثناء القصف.. وهناك رأيت أعقد الحالات وأشدها صعوبة.. رأيت حالات طبية لم أشاهدها طول حياتي الطبية كلها كجراح والتي امتدت لقرابة 35عاماً كاملة.

- لقد رأيت حالات يشيب من رؤيتها الولدان وتقشعر منها الأبدان ولا تمحي أبداً من الذاكرة.

- صف لنا نوعا من هذه الحالات؟

- أول مرة في حياتي في حالات الحروب أري صواريخ تطلق أسطوانات معدنية مشرشرة تخرج بعد اصطدام الصاروخ بالأرض مباشرة.. وهذه الأسطوانات تنتشر في كل مكان بطريقة عجيبة وتقوم ببتر الأقدام فوق الركبتين من الناحيتين.

- وهذا البتر غير معروف في الحروب السابقة فمن المعروف أن الأسلحة القديمة كانت تؤدي إلي البتر تحت الركبة وفي ناحية واحدة عادة.. ولكن هذا الصاروخ أصاب المئات ببتر مزدوج فوق الركبة.. وهذا يجعل المصاب قعيداً طول حياته.. ولا يمكن أخصائي الأطراف الصناعية من عمل طرف صناعي له يتحرك به بعد ذلك.

- وهذه الصواريخ كانت تطلقها الطائرات بدون طيار.. وهذه الطائرات خطيرة جداً وفيها تكنولوجيا متطورة جداً.. ولم يكن أهل غزة يعرفون كيف يتم بتر القدمين بهذه الطريقة.. حتى عثروا على صاروخ لم ينفجر فقاموا بتفكيكه فوجدوا هذه الأسطوانات المعدنية التي تنطلق منه بمجرد اصطدام الصاروخ بالأرض لتقطع أرجل كل الموجودين في مساحة إطلاق الصاروخ بالطريقة التي تحدثنا عنها.

- وكيف استقبلتم في مستشفى الشفاء بغزة؟

- لقد استقبلنا طاقم المستشفى وأهالي المرضى بترحاب كبير جداً.. وهم يعرفون كفاءة الطبيب المصري.. وكذلك يعرفون تماماً مشاعرنا نحوهم كإخوة في الله وفي الإسلام.

- وقالوا لنا: لو لم تعلموا شيئا على الإطلاق فيكفي حضوركم إلي هنا.

- وأنا أرى أن أحداث غزة كانت عبارة عن مذبحة كبيرة للفلسطينيين ومأساة كبيرة لهم.. وملحمة عظيمة أظهرت صبرهم وثباتهم.

- ما هو أكثر شيء رأيته في حالاتك المرضية هناك وأثر في وجدانك وعلق بذهنك ونفسك ولا تنساه أبدً؟

- أصعب شيء رأيته هناك ولم أراه قبل ذلك في حياتي هو العدد الكبير من المصابين بالحروق بالفسفور الأبيض.. وهو خطير جداً.. وعندما يصل هذا الفسفور الأبيض إلي جسم إي إنسان ويتعرض للهواء فإنه يشتعل ذاتياً محدثاً حروقاً فظيعة في الإنسان.. ومصيبة هذا الفسفور الأبيض تكمن في أنه يؤدي إلي نوعين من الحروق:

1- حروق نارية.

2- حروق كيماوية.

- ولا ينطفئ الحرق بالفسفور الأبيض إلا بمواد مثل الدقيق الذي يمنع عنه الهواء تماماً.

- كما أن حروق الفسفور الأبيض كانت تؤدي إلي فشل في العمليات الجراحية التي يجريها الجراحون بالبطن.. وذلك لآن المريض عندما يتحرك أي حركة يشتعل الفسفور من جديد وتفشل العملية الجراحية التي أجراها الأطباء.

- وقد تسبب هذا الفسفور الأبيض في مأساة كبيرة للفلسطينيين لا يعلم مداها إلا الله.. ولا يشعر بهذه المأساة حقيقة إلا أصحابها.

- وكيف كانت المستشفى تعمل في هذه الظروف الصعبة وخاصة في الفترة التي سبقت حضورك أثناء القصف الإسرائيلي لغزة؟- لقد كانت الحالات لا تنقطع عن المستشفى ليلا وً نهاراً وخاصة في فترة القصف الإسرائيلي.. وكانت كلها حالات صعبة ومعقدة.. وكان الأطباء الفلسطينيون يسابقون الزمن.. وكانوا يهتمون بالحفاظ على حياة المرضى أولاً وتأجيل الأشياء الأخرى بعد ذلك.

- وكان هؤلاء الأطباء يعملون في ظروف صعبة وشاقة وعصيبة.. حتى أن بعضهم قال لي: "لقد كنا نجري بعض العمليات الجراحية على الأرض.

- وقد كانت إمكانيات المستشفيات الفلسطينية لا تستوعب هذا الكم الكبير من الحالات المعقدة جداً من الناحية الطبية.

- وماذا فعلت أنت تحديداًفي مستشفى الشفاء بغزة؟

- عندما ذهبت قمت باستلام حالات جراحات التجميل عامة وجراحة تجميل الوجه والفكين خاصة.. وهناك وجدت قصوراً في بعض آلات هذه الجراحة.. فقمت بطلب الآلات الحديثة من النقابة والتي قامت مشكورة بإرسالها لنا بسرعة.

- كما وجد بعض زملائي من أساتذة جراحة العظام والمخ والأعصاب نفس القصور..فطلبوا كذلك آلات لهم من النقابة بمصر مشكورة.. وهذا جهد طيب من هذه النقابة العريقة في خدمة الطب والأطباء والمرضى وكذلك إغاثة المنكوبين في أماكن كثيرة في العالم عامة والإسلامي خاصة.

- ما هي أنواع الحالات التي كنتم تتابعونها هناك؟

- الحالات هناك حالات مأساوية فهي معقدة ومركبة وتحتاج إلي فريق جراحي متكامل من الجراحة العامة والأوعية الدموية والعظام والتجميل.. ويندر أن تجد هذه الحالات في الظروف العادية.

- وما هي نسبة نجاح العمليات الجراحية هناك؟

- رغم كثرة الحالات وقلة الإمكانيات وعمل الأطباء جميعاً لمدة 24ساعة بدون راحة.. إلا أن نتائج العمليات الجراحية كانت أكثر من ممتازة ولم أتخيل شخصياً هذه النتائج الباهرة.. وكنت أتعجب من ارتفاع نسبة نجاح العمليات رغم هذه الظروف المعقدة.

- إلي أي شيء تعزو نجاح العمليات الجراحية في هذه الظروف الطبيعية؟

- أنا أرجع هذا الأمر إلي عدة أسباب أهمها:

1- الروح المعنوية العالية التي كان يتمتع بها المرضي.. فلم أرى في حياتي روحاً معنوية هائلة مثلما رأيت في غزة.. فمثل هذه الحالات في الظروف العادية عادة ما يصبها اليأس والقنوط والإحباط.

2- الإخلاص الشديد من الطاقم الطبي.. فكلهم جاء متطوعا ً دون أجر.. وحينما تفعل شيئاً خالصاَ لله تشعر بلذة عظيمة أعظم بكثير من اللذة التي يشعر بها الطبيب العادي حينما يحصل على أجر مادي كبير.

- كما أن مشاعر كل الطاقم الطبي كانت في أعلى درجاتها الإيمانية.. حيث كنا نقول لأنفسنا كيف يضحى هؤلاء بحياتهم وأسرهم وبيوتهم وأمنهم ولا نضحي نحن بأي شيء.. ولا نقدم لهم شيئاً.. فهذا الذي نقدمه هو أبسط الأشياء للوقوف إلي جوارهم في محنتهم.

3- في هذه المواقف تحدث بركات وكرامات لبعض المرضى لا تحدث للمرضى العاديين.. وذلك لعله بسيطة أن هذا المريض هو مجاهد مقهور مظلوم معتدي عليه.. ولذلك فإن الله يؤيد هذا المريض وينصره ويشفيه ويريه من كرمه وفضله الكثير والكثير مما لا يحدث عادة مع أي مريض عادي.

- بمناسبة ذكرك لمعنويات المرضى العالية.. هل يمكنكم أن تذكروا لنا وللقراء أمثلة واقعية رأيتها هناك للمعنويات العالية للمرضى؟

- من المرضى الذين قابلتهم في غزة ولن أنساهم أبداً طوال حياتي.. رجل اسمه غول أصابه صاروخ انطلق من طائرة بدون طيار فأحدث له بتراً فوق الساقين.. وكان ضمن الحالات التابعة لجراحة التجميل.. وكنت أتحدث معه لأخفف عنه مصابه الجسيم.. فقال لي: يا دكتور جمال.. أقسم بالله العظيم إنني كنت أتمنى أن تكون الإصابة أكثر من ذلك.. وأنا سعيد جداً بهذه الإصابة لأنها في سبيل الله.

- ومريض آخر كانت إصاباته متعددة ومعقده نتيجة صاروخ أطلق من طائرة ف16 الإسرائيلية المتطورة.. وبعد ما تم تخديره وقبل دخوله في التخدير الكامل كان يقول:
لا إله إلا الله.. كلمة الله العليا.
بيقولوا ف16.. هه هه.. دي لعب أطفال..




- ويظل يكرر هذه العبارات التي تعبر عن مشاعره الحقيقية إذا إن هذه المرحلة من التخدير تطلق كوامن النفس الداخلية.

- أنت عشت مع الشعب الفلسطيني في محنة من أكبر المحن قرابة 16يوماً.. ما رأيك في هذا الشعب؟

- الشعب الفلسطيني قوي جداً.. وعنده جلد وصبر كبير.. فرغم كل ما حدث فقد كنت أرى المساجد ممتلئة والمشاعر فياضة بالإيمان واليقين رغم القصف المتواصل ورغم عموم الإظلام في غزة وخان يونس.. وقد حضرت خطبتي جمعة هناك.. وكان جل الحديث فيها عن الصبر والثبات واحتساب الأجر عند الله سبحانه.

- وماذا فعلت بعد انتهاء حالاتك في مستشفى الشفاء بغزة؟- قبل أن انتهي من كل حالاتي في مستشفى الشفاء بغزة طلبوا مني الذهاب إلي المستشفى الأهلي في غزة لمتابعة حالات التجميل هناك.. وذلك لأن زميلي هناك حدث له طارئ اضطره للسفر والعودة إلي مصر.. فذهبت إلي هناك واستلمت منه الحالات الخاصة بجراحة التجميل.. وبذلك أصبحت أعمل في مستشفى الشفاء صباحاً وفي المستشفى الأهلي مساءاً وكانوا يوصلونني بسيارة كل يوم. 

- لم نسمع عن هذا المستشفى أبداً في الأحداث؟

- لأنه أصغر بكثير من مستشفى الشفاء.. ولكنه قديم جداً.. إذ أنه بني سنة 1917م أثناء الاحتلال البريطاني لغزة.. وفيه كنيسة صغيرة.. ولها جرس يدق لاستدعاء الأطباء عند الطوارئ.

- إذا هي مثل مستشفى جمال عبد الناصر في الإسكندرية.. لأنها في الأصل بنيت أثناء الاحتلال الانجليزي لمصر وكان يمتلكها إيطاليون تقريباً.. ومازالت فيها كنيسة صغيرة غير مستعملة حتى الآن.. وفيها حدائق رائعة منذ ذلك الوقت؟

- أنا لا أعرف هذه المعلومة.. ولكن يبدو أن معظم هذه المستشفيات كانت تبنيها مؤسسات خيرية ذات طابع تبشيري في أوائل التسعينات أيام الاحتلال الانجليزي والفرنسي ثم جرى تأميمها بعد ذلك.

- ما رأيك في كفاءة الطبيب الفلسطيني؟

- كفاءته العقلية جيدة.. ولكنه يحتاج للتدريب في الخارج كثيراً.. ونظراً للحصار المفروض عليهم فهم لا يحضرون أية مؤتمرات طبية عالمية.. والطبيب لن يكون ممتازاً ومتطوراً إلا بالاحتكاك بأطباء العالم باستمرار.. والتدريب على كل جديد في الطب الذي يتميز عن غيره بأن فيه جديداً كل يوم.

- المريض الفلسطيني في غزة كان يفضل من في علاجه.. الطبيب المصري أم الفلسطيني؟

- كل المرضى الفلسطينيين الذين تعاملت معهم كانوا يفضلون الطبيب المصري.. وكان يطلبون ذلك منا صراحة.. ويقولون لي: نريدك أن تجري لابننا العملية.

- ما هو السبب في ذلك؟

- السبب الأول: هو كفاءة الطبيب المصري المعروفة لديهم 

- أما السبب الثاني: هو أننا كنا أكثر رقة في التعامل معهم وأكثر عطفاً عليهم ورفقاً بهم من الطبيب الفلسطيني الذي مر بفترات عصيبة جداً.. وظل يعمل في هذه الظروف المعقدة ليل نهار بلا انقطاع وهو في الوقت نفسه غير آمن على أسرته وأهله بل ونفسه فأصيب بقدر هائل من التوتر والانشغال الذهني الذي عاقه كثيرا ً عن الاهتمام بالرفق بمرضاه 

- أما نحن فقد جئنا من مصر في حالة استرخاء نفسي وبدني ومكثنا فقط16يوماً.. ولو كنا مكانهم فقد كان يمكن أن يصيبنا التوتر والإرهاق الذهني والبدني أكثر منهم.. فالحرب ليست سهلة على من عاش في خضمها ولهيبها.

- ماذا كان شعور المريض الفلسطيني نحوك بعد أن تتحسن حالته؟

- كانوا سعداء.. وكانوا يشكروننا كثيراً.. وقد أهدوني هدايا بسيطة ولكنها جميلة وعزيزة على نفسي.. فبعضهم أعطاني ميدالية وبعضهم أعطاني سبحة.. وما شابه ذلك تعبيراً عن شكرهم وامتنانهم.. وكانوا يعتذرون عن بساطة الهدايا نظراً لظروفهم العصيبة.

- ألم تكن هناك هيئات إغاثية أخرى أجنبية؟- نعم كانت هناك هيئات إغاثية أجنبية تعمل في غزة.. وكان فيها أطباء أجانب.. رأيت منهم أطباء فرنسيين وروس وغيرهم.

- ما رأيك في كفاءة وعمل هؤلاء الأطباء؟ 

- هؤلاء الأطباء كانت كفاءتهم بسيطة ومتواضعة بالنسبة للأطباء المصريين.. ومعظم هؤلاء جاءوا للتدريب ولم يكونوا على المستوى اللائق بهذه الحالات المعقدة الصعبة.

- وأنا متخصص في حالات الحروب بالذات وأعرف الطبيب المتخصص فيها من أول عملية جراحية أراه فيها.. وأنا رأيت مستوى هؤلاء فوجدته ضعيفاً جداً.. ولم يأت من هذه البلاد الأطباء العظام المتمكنين من علاج هذه الحالات.

- هل تضرب لنا مثالاً على ذلك؟

- كانت هناك فتاة مصابة بإصابات مختلفة منها كسر مضاعف في الفك وحروق في الوجه وعندها كسور في الذراع وحروق شديدة فيه مع تهتك في الأنسجة.. فكنت بسبب تخصصي أتابع علاج منطقة الوجه والفكين.

- وكان هناك طبيب فرنسي يعالج الكسور والحروق.. فوجدت أن هذا الطبيب يعمل في الأصابع قبل أن يهتم بالأساس الأصلي وهو تثبيت العظام في الذراع وإصلاح الشرايين وهذا خطأ جراحي كبير.. فالجراحة لها أسس وأصول عالمية ثابتة تتلخص في:

- أولاً: تثبيت العظام. 

- ثانياً: إصلاح الشرايين والأوردة والأعصاب في الساعد. 

- وأخيراً الاهتمام بإصلاح أي تهتكات في اليد.. ولو عكست هذا الترتيب كما فعل الجراح الفرنسي سيفشل كل شيء وقد يؤدي ذلك إلي بتر الذراع بأكمله.

- وماذا فعلت حينما رأيت الجراح الفرنسي يفعل ذلك؟

- لقد اعترضت بشدة على ما يفعل.. وشعرت أنه ضعيف جداً في الجراحة.. وقلت له بحدة: 

- عليك أولاً أن تجري تثبيتاً خارجياً للعظام.. وأن ما تفعله خطأ جراحي جسيم.. ولكنه غضب من كلامي.

- فقلت له: أنت فاكر أنك هنا لتعلم الناس.. أنت تحتاج إلي من يعلمك أولاً.

- ولما اشتد الخلاف بيننا تدخل بعض زملائي المصرين وقالوا لي:

يا دكتور جمال.. أتركه يتابع عمله في تخصصه وأنت اهتم بالوجه والفكين.. ولكن في النهاية هذه الفتاة توفيت.. "وإنا لله وإنا إليه راجعون".

- وكان هناك جراح روسي معنا رأيت مستواه ضعيفاً جداً ويخطأ في بديهيات جراحة العظام وخاصة في طريقة تثبيت العظام.

- وما هي قصة ذلك الجراح الروسي؟

- كان هناك شاب عمره 16 عاماً وكان مصاباً بشظية وتهتك في العظام.. وكان يتابع علاجه جراح روسي.. وكان هذا الجراح يريد تقصير الذراع لتقريب الأنسجة من بعضها حتى تلتئم.. فقلت له: هذا خطأ كبير.. ولا تقصر الذراع حتى لا يضار المريض.. وقلت له نبدأ بالتثبيت الخارجي للعظام أولاً.. ثم نحاول علاج الأنسجة المتهتكة بعد ذلك.. وفعلاً صنعنا ذلك.. وتحسنت الحالة تحسناً كبيراً دون اللجوء إلي تقصير الذراع.

- ما هي أشد حالة طبية ومأساوية رأيتها هناك؟

- أشد حالة رأيتها في حياتي كلها رأيتها هناك في غزة.. حيث جاءنا رجل كان يجمع أغراضه وحاجياته لترك منزله فأصابه صاروخ من طائرة بدون طيار.. فتحول إلي شيء عجيب لم أر مثله من قبل طوال حياتي.. فكأنه دخل مفرمة فرمته.. فكسرت الفقرات العنقية وأصبح وجهه للخلف بدلاً من الأمام.. وكل شيء فيه كأنه فرم في مفرمة.. وهذا الرجل توفى على الفور ولكنني لا أستطيع نسيان حالته.

- هل انتهيت من علاج كل حالات التجميل هناك؟

- نعم.. قد انتهيت قبل مغادرتي لغزة من كل حالات الجراحة التجميل وذلك لأنني كنت أعرف قيمة الوقت.. فكنت أواصل الليل بالنهار في غرفة العمليات حتى انتهيت من علاج كل الحالات.. حتى أنني عملت بعض عمليات جراحات التجميل العادية التي لا علاقة لها بالحرب.

- كيف عدت إلي مصر؟

- لقد استدعينا من قبل الدولة وقالوا لنا: لقد أديتم واجبكم فارجعوا.. فعدنا ونحن في حزن شديد لأننا كنا أن نريد أن نعطي أكثر من ذلك ونخدم إخواننا لمدة أطول.

- وماذا كان شعورك وأنت عائد إلي وطنك مصر؟

- لقد كنت سعيداً جداً بتوفيق الله لي أن مكنني من أن أصنع شيئاً بسيطاً لخدمة إخواني في غزة.. وقد شعرت هناك بمعنى النصرة بمعناها الحقيقي كما جاء في الحديث الشريف "المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه".

- ألم تفكر في تقديم خدمة دائمة للشعب الفلسطيني وخاصة في مجال جراحة التجميل؟

- لقد فكرت في ذلك فعلاً.. وتعاقدت مع إحدى كليات الطب الخاصة في غزة لتدريس مادة جراحة التجميل فيها.. وتدريب أكبر عدد من الأطباء على الجراحة الميكروسكوبية خاصة وجراحة تجميل الوجه والفكين خاصة.. ولكن إدارة الجامعة في مصر رفضت هذا التعاقد مما اضطرني إلي العودة وعدم إنقاذ هذا العقد.

- وإلى هنا ينتهي الجزء الأول من حوارنا الإيماني والحزين في الوقت نفسه مع د/ جمال برهامي والذي تناولنا فيه رحلته إلي غزة كاملة ونسأل الله أن يوفقنا لمزيد من الحوارات الإيمانية معه


No comments:

Post a Comment